• عائدة - حبر أون لاين

عائدة من رحم الّليل

عائدة من رحم الّليل..

اليوم مرّ خمسة عشر عاماً، ذكرى بقائي داخل جدران قصرك العتيق، ذلك القصر الّذي كنت أهابه عندما كنت طفلة.

وها أنا الآن مالكته، لا.. بل هو من يملكني.

تلك الطّفلة الّتي رأيتَها ذات يوم تحوم حول أقفال قصرك لتقتحمه، اليوم هي فريستك، تلك الضّفائر المجدولة الّتي كانت معلّقة خلف رقبتي صارت الآن حول عنقي.

أسمع كلّ يوم خطا أقدامك تترك أثراً فوق سقف غرفتي، أعلم أنّك ذاهب لصومعتك، تلك الغرفة الّتي تخبّئ داخلها روحك.

تهتزّ تلك الرّافعات الخشبيّة فتهطل منها بعض الذّكريات الّتي قضي عليها الزّمن وسكنتها بعض العناكب وجعلتها مسكنها.

** عائدة من رحم الّليل **

مازالت غرفتي باردة كما أوّل مرّة، خمسة عشر عاماً ومازلت الجدران تبكي والجروح تملأ زواياها.

ليست في غرفتي مرآة فلا أعلم ملامحي هل تغيّرت بعد أم مازالت تحمل ذكرى تلك الطّفلة الّتي ضاعت منذ زمن.

أتحسّس بعض التّجاعيد والخطوط على وجهي، لا أعلم من أين أتت، ولكنّها تخيفني فأنا لا أرى من يسكنها.

اليوم ومنذ خمس ليالٍ استمعت لصوتك الّذي كان حبيس صومعتك، كنتَ تناديني مطالباً إحضار قهوتك، لا أعلم كيف تبقي على روحك هناك.. لا طعام.. لا حياة.. فقط سجائرك العتيقة وقهوتك الّتي تتصاعد منها مرارة ما أرى.

أعوام مرّت وأنا وأنت ميّتان يسكنان عالم البشر، تثور أرواحنا وتعود مجدّداً عندما يسدل الّليل ستائره، كيف أراك؟ لا أعلم..

اعتدت ممارسة لعبة الاختباء معك، فمن يرى الآخر فهو الخاسر، وأنت لا تعرف معنى الخسارة، فإلى الآن مازلت أنا من تبحث..

صوت الّليل يهمّ فوقي فتنثر سحابته الغائمة وتحوم حول زنزانتي، أسمع همهمات صوتك من بين سيجارتك الّتي لا تفارقك فتصعد كلماتك حاملة أنفاسك وغضبك العارم.

تلك كانت ليلتي الأخيرة معك، كانت تُشبه خريف عمري.

دقّت السّاعة الثّالثة هذا موعد تحضير فنجان قهوتك، كانت قدماي تحملاني عنوة كي لا أصعد ولكنّي فعلت.

كما أفعل كلّ ليلة وأعود مجدّداً لغرفتي بجرحٍ جديدٍ

خطت قدماي أوّل خطوة ووقفت.. يا إلهي كم هواء غُرفتك بارد.. كم يشعرني بالخوف!

أشعر بصفعته على وجهي، يبدو أنّه يُجادلني كي لا أقتحم صومعتك، تجرّأت قدماي واقتحمت صومعتك، كانت رائحة البرد تحوم في المكان، لا أعلم كيف خطت قدماي تلك البقعة.

لا أعلم ماذا هناك ولكن لم يكن هناك سوى الصّمت، فقط صمت مُخيف تغلغل داخل أحشائي وكأنه وليد لحظة وقوفي هنا.

كانت العتمة سيّدة المكان تخلو من أيّ روح، ماعدا تلك البقعة السّاقطة أعلى طاولتك

لم يكن هناك سوى غريب واحد يتوسّط تلك الفوضى، وذلك الغريب هو أنا..

تلك الغريبة الّتي تلحّفتها ذكرياتك وجعلَتها تُشبه روحك المُظلمة، فاعتقلتها داخل جدران سجنك بحكم مدى الحياة.

** عائدة من رحم الّليل **

نظرتُ بعينيّ لحائط غُرفتك، ليس هناك سوى غبار يحمل ذكرياتٍ عتيقة، وإطار لوحة قديمة تتوسّطها امرأة جميلة هزيلة الجسد شاحبة الوجه، ومن الاسم المدوّن علمت أنّها زوجتك المتوّفية شعرتُ لوهلة أنّها حيّة، فنظرتها لي كانت تقول: هيّا ارحلي قبل أن تغتصبك جدران تلك الغرفة وتصيري ذكرى مُغبّرة بالأتربة.

سافرت بعينيّ داخل جدرانها، لم أجد سوى الموت يحوم بين زواياها، يُغرّد بترنيمة لا ينصت لها سوى الأموات، وكم من أموات يسكنون هنا!

كانت النّافذة ترتطم فتحاتها ببعضها وكأنّها تخوض معركة، فهناك خوف يروادها.. هناك شيء قادم.

عندما اقتربت لم أرَ سوى أعين ممدّدة تعكس النّار المضيئة بها خلف زجاج النّافذة.

في تلك الّلحظة توقّف قلبي وتجمّد جسدي وأنا أحملق في جسدك البارد، وهو ممدّدٌ أسفل طاولتك تحوم من حولك أوراقك البيضاء الّتي تفرّشت الأرض وكتبت نهايتك الأولى.

كانت عيناك تنظران لي كشبحٍ عائد من رحلة الموت لاستكمال انتقامه، شعرتُ بأنّك تحاول أن تسكُنني.

كان جسدي لا يبالي وروحي ثائرة خائفة، عاجزة عن الصّراخ حتّى هدأ المكان وصارت أصوات أنفاسي تعلو وتعلو حتّى غفت داخلي.

****

بقلم: شيريناز مجدي “شيرين رضا”.

تصميم غرافيك: ديمة عدل.

****

واقرأ أيضاً في حبر أفكار لكاتبتنا:

مذكراتي خريف عمري 2

مذكراتي خريف عمري 1

الانتحار الّلذيذ – المشهد الأوّل

الانتحار الّلذيذ – المشهد الثّاني

الانتحار الّلذيذ – المشهد الثّالث

****

تابع حبرنا عبر

twitter    instagram   facebook

التعليقات غير مفعلة