• ابن الفارض

سمو الرّوح في شعر ابن الفارض

يقول: ابن الفارض

هو الحُبّ فاسلم بالحشا ما الهَوى سهلُ …  فما اختارَهُ مُضْنى به وله عقْلُ

ولكنّ شاعرنا اختار الحبّ، وذاب فيه حتّى الفناء، وليس أيّ حب.. إنّه الحبّ الإلهي، الّذي أنطقه بأجمل القصائد الصّوفيّة وأعذبها، والّتي لا تزال إلى اليوم رمزاً لكلّ العاشقين.

إنّه ابن الفارض ..

سيرة ذاتيّة لابن الفارض

هو عمر بن أبي الحسن بن علي بن المرشد بن علي، كنيته أبو حفص وأبو القاسم، والمعروف بابن الفارض، والموصوف بصفة الشّرف، فيقال: الشّرف ابن الفارض.

أصل ابن الفارض من مدينة حماة السّوريّة، لكنّه وُلد في مصر ونشأ فيها عمره كلّه حتّى الوفاة سنة 632، أمّا تاريخ ولادته فمختلف عليه بين عام 566 ه و576ه[1].

يقول عنه ابن خلّكان: “سمعت أنّه كان رجلاً صالحاً كثير الخير… وكان حسن الصّحبة محمود العشرة” [2].

ويُلقّب ابن الفارض بـ “سلطان العاشقين” وهو من أكبر شعراء الصّوفيّة وأجودهم قولاً ونظماً، فقد تأثّر في حياته بوالده الّذي كان زاهداً ورعاً حتّى أنّه انقطع في آخر حياته للعبادة فقط.

ويقسم المترجمون والمؤرّخون حياته إلى ثلاثة أطوار: طور الشّباب: عاش فيه حياة من الزّهد والتّصوّف متأثّراً بوالده.

والطّور الثّاني تمثّل في ذهابه إلى الحجاز وقد تأثّر شعره بالطّبيعة البدويّة فيها ممّا جعل هذه الفترة مميّزة به إضافة إلى ما كان عليه من تصوّف وزهد[3].

والطّور الثّالث حين عاد إلى مصر وأمضى حياته فيها إلى حين وفاته.

مذهب الحب في شعر ابن الفارض

يتّسم شعر ابن الفارض بألفاظه الغزليّة السّلسة والّلطيفة، حتّى أنّ بعض المفسّرين لم يروا فيها شعراً في الحبّ الإلهي، وإنّما غزل كغزل الشّعراء بمحبوباتهم.

ويعود ذلك التّفسير إلى ما يستخدمه ابن الفارض من ألفاظ معجم الخمريّات والغزليّات، ولكنّ المدقّق في شعره سيتبيّن له سموّ روح ابن الفارض عن الغزل الدّنيوي الإنساني إلى غزل إلهي، فعندما يقول:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة … سكرنا بها من قبل أن تخلق الكرم[4]

فهذه المدامة (أي كأس الخمر) ليست حقيقيّة والدّليل قوله (من قبل أن تخلق الكرم)، أي أنّ هذه الخمرة أسكرته قبل أن توجد كروم العنب وتقطف وتعصر.

فخمرته هنا “روحيّة خالصة شربها وسكر بها من قبل أن تخلق الكرم، أي من قبل أن تهبط من عالم الأمر إلى عالم الحس، حيث تتّصل بالبدن”[5]

فهذه الخمرة:

تُهَذّبُ أخلاقَ النّدامى فيّهْتَدي … بها لطريقِ العزمِ مَن لا لهُ عَزْم

ويكرُمُ مَن لم يَعْرِف الجودَ كَفُّه … ويحلُمُ عند الغيظ مَن لا لهُ حِلم[6]

فهي إذاً ليست خمرة مادّيّة تُذهب العقل، بل هي غذاء روحي من الأخلاق والتّهذيب تُصيب شاربها بأسمى الصّفات.

عندما يعشق ابن الفارض

وأبيات الغزل والعشق عند ابن الفارض مفعمة بالرّوح الفلسفيّة الوجوديّة، وغزله بسيط الّلفظ سلس المعنى، يدخل إلى عمق الرّوح ليرتفع فيها عن مادّيّتها لتعيش لحظة من الأبديّة في الحبّ السّامي.

ومن أقواله[7]:

قلبي يُحَدّثني بأَنّكَ مُتْلِفِي .. روحي فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِفِ

لم أَقْضِ حَقّ هَواكَ إن كُنتُ الذي .. لم أقضِ فيِه أسىً ومِثليَ مَنْ يَفي

يا مانِعي طيبَ المَنامِ ومانِحي .. ثوبَ السّقامِ بِهِ ووَجْدِي المُتْلِفِ

عَطفاً على رَمقي وما أبقَيتَ لي .. منْ جسميَ المُضْنى وقلبي المُدَنَفِ

واسأَلْ نجومَ اللّيلِ هل زارَ الكَرَى .. جَفني وكيف يزورُ مَن لم يَعْرِفِ

إن لم يكن وْصلٌ لدَيْكَ فعِدْ به .. أَمَلي وَمَاطِلْ إنْ وَعَدْتَ ولا تفي

أنتَ القَتِيْلُ بأيّ مَنْ أحبَبْتَهُ .. فاختر لنَفْسِكَ في الهوى من تصطفي

ولقد صَرَفْتُ لحُبّه كُلّي على .. يَدِ حُسْنِهِ فحمِدْتُ حُسْنَ تصرّفي

تفيض الأبيات بنفحة من العشق يبثّها ابن الفارض في نصّ رقيق مختاراً له رويّ الفاء المكسور ليدلّ على انكسار نفسه بهذا العشق.

ونفس ابن الفارض في الأبيات هائمة في محبوبها إلى الحد الأبعد، حتّى أنّ روحه موهوبة له بكلّ سرور إذ قال (روحي فداك، أنت القتيل).

ومن جميل مقال ابن الفارض في العشق مقطّعات تسمّى دوبيت[8] أيضاً ومنها[9]:

رُوحي للقاك يا مُناها اشْتَاقَتْ .. والأرضُ عليّ كاختيالي ضَاقَتْ

والنفسُ لَقَدْ ذابَتْ غراماً وجوىً .. في جنب رضاك في الهوى ما لاقَتْ

وله أيضاً شعر مفعم بالرّقة والجمال[10]:

زِدْني بفَرْطِ الحُبّ فيك تَحَيّرا .. وارْحَمْ حشىً بلَظَى هواكَ تسعّرا

وإذا سألُتكَ أن أراكَ حقيقةً .. فاسمَحْ ولا تجعلْ جوابي لن تَرى

يا قلبُ أنتَ وعدَتني في حُبّهمْ .. صَبراً فحاذرْ أن تَضِيقَ وتَضجرا

إنَّ الغرامَ هوَ الحياةُ فمُتْ بِهِ .. صَبّاً فحقّك أن تَموتَ وتُعذرا

هذا هو ابن الفارض.. شاعر الحبّ الإلهي والغزل الرّقيق الّذي يسمو بالرّوح ويرتقي بها إلى عالم من الجمال والجلال.

****

ديوان ابن الفارض: هنا

****

إعداد: نور رجب.

تدقيق لغوي وعلمي: زهراء موالدي.

تصميم غرافيك: ديمة عدل.

****

المصادر والهوامش:

[1] كلّ مؤرّخ اعتمد على مصادر في تحديد العام فعند ابن خلّكان هي 576 وعند ابن العماد مؤلّف شذرا الذّهب هي 566.

[2] ابن خلّكان/ وفيات الأعيان، الجزء 3، ص 455.

[3] يُنظر: حلمي، مصطفى، ابن الفارض والحبّ الألهي، ص 48.

[4] ديوان ابن الفارض، دار صادر، بيروت، لا تا، ص 140 وما بعدها.

[5] حلمي، مصطفى، ابن الفارض والحب الإلهي، ص 161.

[6] ديوان ابن الفارض، دار صادر، بيروت، لا تا، ص 140 وما بعدها.

[7] ديوان ابن الفارض، ص 151 وما بعدها.

[8] دوبيت: هو قالب شعري فارسي دخل إلى الّلغة العربيّة، ويتألّف من أربعة أشطر تنتهي كلّها برويّ واحد كما في مثالنا هنا.

[9] ديوان ابن الفارض، دار صادر، بيروت، لا تا، ص 186.

[10] ديوان ابن الفارض، ص 169 وما بعدها.

****

واقرأ أيضاً في سلسلة حبر موزون:

أبو البقاء الرّندي .. وروح الأندلس

****

تابع حبرنا عبر

twitter    instagram   facebook

التعليقات غير مفعلة