• الأعشى - حبر أون لاين

الأعشى .. من كلّ فنٍّ له شعرُ

صنّاجة العرب .. هو واحد من أسمائه، أُطلق عليه لجودة شعره من ناحية، ولكونه صار شعراً غنائيّاً، فتغنّت به القيان في الحانات، وأُنشد أمام الملوك حتّى سمعه كسرى ملك فارس. الأعشى

أمّا الأعشى .. فهو لقب سُمّي به بسبب ضعف في بصره لذلك كٌنّي أيضاً بأبي بصير كنوع من التّفاؤل.

أمّا اسمه الحقيقي فهو ميمون بن قيس، ويعود نسبه إلى قبيلة بكر بن وائل المشهورة وواسعة الانتشار في أرض الجزيرة العربيّة.

عاش الأعشى في أواخر العصر الجاهلي وعاصر الإسلام لكنّه لم يسلم، يُقال أنّ أباه يُلقّب بقتيل الجوع، إذ دخل مرّة إلى غار يستظلّ فيه من الحرّ فوقعت صخرة عظيمة سدّت مخرجه فمات فيه جوعاً[1].

كان كثير التّنقّل والأسفار في أنحاء الجزيرة يمدح السّادة والأشراف ويدلّ على ذلك شعر المديح في ديوانه.

الأعشى والخمر

ممّا يُخبر به الرّواة عن الأعشى أنّه “لمّا سمع بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم وانتصاراته وانتشار دعوته رغب في الوفود عليه ومديحه، وعلمت قريش بذلك فتعرّضت لمنعه.

وكان ممّا قاله له أبو سفيان: إنّه ينهاك عن خلال ويحرّمها عليك، وكلّها بك رافق ولك موافق، قال: وما هنّ؟ فقال أبو سفيان: الزّنا والقمار والرّبا والخمر. فعدل عن وجهته”[2].

ويدلّ على حبّه الشّديد للخمر ما في ديوانه من أشعار خمريّة جعلته يفوق بخمريّاته الشّعراء ويكون إماماً لمن جاء بعدهم[3].

ولم يترك شيئاً يتعلّق بالخمر إلّا ووصفه في شعره من لونها ورائحتها وآنيتها وشربها وساقيها ومجالسها وحتّى أصلها.

ففي آنيتها يقول:

فترى إبريقهم مُسترعِفاً … بشَمولٍ صُّفِّقَتْ من ماءِ شَنْ[4]

فالإناء إذ تُسكَب الخمرة منه كأنّه في حالة رُعاف من غزارة انسكابها ولونها الأحمر القاني، لتنسكب في الكأس خمراً شَمولاً أي باردة أصابتها ريح الشّمال فبردت، ممزوجة بالماء في وعائها للتّخفيف منها.

على أنّ الأعشى لم يترك شرب الخمر في كلّ أحواله فقد شربها في ترحاله وإقامته، وفي غناه وفقره، وفي حزنه وسعادته، فيقول:

على كلِّ أحوالِ الفتى قد شربتها … غنيّاً وصُعلوكاً وما إن أقاتُها[5]

وفي ديوانه ما يزيد عن مئة وخمسين بيتاً في الخمر وهو مجموع يوازي تقريباً ما قاله فيها شعراء الجاهليّة الباقون ورواه عنهم الرّواة[6].

السّؤال في الشّعر .. مديح الأعشى

من الفنون الّتي تطرّق إليها الأعشى في شعره وأكثر فيها كان المديح، فأنشد الشّعرَ في مدح الملوك والسّادة طلباً للعطاء المادي.

ويعدّ أوّل من “سأل بشعره” أي طلب مقابلاً ماديّاً في مدحه لملك أو سيّد شريف[7].

ويُلاحظ في وصفه الغلوّ والإفراط في منح الممدوح صفات مبالغ فيها، ويُرجع النّقّاد ذلك إلى أمرين:

فقد يكون الأعشى يتعمّد ذلك ليضمن عطاءً كبيراً من ممدوحه، أو من أثر الحضارات الّتي تعرّف إليها ومرّ بها في أسفاره[8].

ومن شعره في المديح ما قاله في قيس بن معد يكرب (الديوان: ص 51):

إلى ملكٍ خيرِ أربابِه .. وإنَّ لِما كلِّ شيءٍ قرارا

إلى حاملِ الثّقلِ عن أهلهِ .. إذا الدّهرُ ساقَ الهَنَاتِ الكِبارا

ومن لا تُفَزَّعٌ جاراتُهُ .. ومَن لا يُرى حِلمُهُ مُستعارا

ومَن لا تُضاع له ذمّةٌ .. فيجعلَها بينَ عَين ضِمارا

فقد توجّه الأعشى إلى هذا الملك لأنّه استطاع أن يعيد للبلاد استقرارها وحمل عن أهله المصائب وحماهم، وأعطى الأمان لجيرانه، ولم يخلف وعداً قطعه على نفسه أبداً، فكان أهلاً لأن يمدحه الأعشى ويُنشد له الشّعر.

معلّقة الأعشى أشهر شعره

لقد كان شعره جزلاً بألفاظه، سلساً بمعانيه، دقيقاً بوصفه مهما كان الموضوع الّذي يطرحه في قصائده.

وقد أثبت الرّواة قصيدة له ضمن ما يسمّى “المعلّقات العشر” وهي عشر قصائد جاهليّة تُعدّ من أجود القصائد في شكلها ومضمونها.

ويقول في مطلع هذه  القصيدة:

ودِّعْ هُريرةَ إنّ الرّكبَ مُرتَحِلُ .. وهل تُطيقُ وداعاً أيّها الرّجلُ

غرّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارِضُها .. تمشي الهوينى كما يمشي الوجِي الوَحِلُ

كأنّ مِشيتهَا من بيتِ جارتِها .. مرَّ السّحابةِ، لا ريْثٌ ولا عَجَلُ

ليسَتْ كمَن يكرهُ الجيرانُ طلْعَتَها .. ولا تراها لسرِّ الجارِ تَخْتَتِلُ[9]

هذه مقدّمة القصيدة وقد ابتدأها في وصف قينة (جارية) فأعطاها صفات في الشّكل (غرّاء: بيضاء ناصعة الجبين، الفرعاء: طويلة الشّعر، مصقول عوارضها: أي بيضاء الأسنان عندما تتحدّث وتظهر، تمشي الهوينى: أي تسير بهدوء[10]).

وأعطاها صفات في الخُلُق إذ قال بأنّها محبوبة من جيرانها، ولا تتجسّس على سرّ من أسرارهم.

والمعلّقة تقع في ستّة وستّين بيتاً وهي من البحر البسيط فيها مجموعة من الأوصاف والتّشابيه في المرأة والخمر إضافة إلى موضوعها الرّئيسي وهو هجاء يزيد بن شيبان ويعد البيت التّالي من أجود أبيات الهجاء:

كناطحٍ صخرةً يوماً لِيَفلِقَها .. فلم يَضِرْها وأوهى قرْنَهُ الوَعِلُ[11]

إذ يشير في هذا البيت إلى حماقة من الفاعل كأنّه دابّة يريد أن يكسر صخرة بقرنه فلم يًفلح ولكن كسر قرنه هو.

وهذا التّشبيه جاء ليشرح كيف أنّ يزيد لا ينفع في الحرب إذا ما شبّت نارها، ففي حين يكون المقاتلون منتشرون ويقاتلون يكون هو كوعل أحمق يحاول كسر صخرة!!

والحديث عن شعر الأعشى عموماً يطول، وأمثلة شعره كثيرة وجميلة لمن يحبّ هذا الشّعر ويقرأ فيه.

****

إعداد: نور رجب.

تصميم غرافيك: ديمة عدل.

****

الهوامش والمصادر:

[1] يُنظر: ضيف. شوقي، تاريخ الأدب العربي: العصر الجاهلي، ص 335.

[2] المصدر نفسه، ص 337.

[3] يُنظر: محمّد حسين. محمّد، أساليب الصّناعة في شعر الخمر والأسفار بين الأعشى والجاهليّين، ص 7.

[4] ديوان الأعشى الكبير، تحقيق محمّد حسين، ص 359.

[5] المصدر نفسه، ص 85.

[6] يُنظر: محمّد حسين. محمّد، أساليب الصّناعة في شعر الخمر والأسفار بين الأعشى والجاهليّين، ص 7.

[7] يُنظر: الجمحي. ابن سلّام، طبقات فحول الشّعراء، ص 44.

[8] يُنظر: ضيف. شوقي، تاريخ الأدب العربي: العصر الجاهلي، ص 348.

[9] ديوان الأعشى الكبير، ص 55.

[10] يُنظر: الشّنقيطي. أحمد بن الأمين، المعلّقات العشر وأخبار شعرائها، ص 131.

[11] ديوان الأعشى الكبير، ص 61.

****

واقرأ أيضاً في سلسلة حبر موزون:

أبو البقاء الرّندي .. وروح الأندلس

سمو الرّوح في شعر ابن الفارض

****

تابع حبرنا عبر

twitter    instagram   facebook

لا يوجد تعليقات