• الحداثة - حبر أون لاين

أثر الحداثة والمعاصرة في مجتمعنا

من المتّفق عليه أنّ لغة الفكر المعاصر تضاربت جزئيّاً مع عوامل التّقدّم الحضاري، وجعلت منها شكلاً نسبيّاً يتساوى مع معدّلات التّدرّج الثّقافي لكلّ فئة.

وعمل هذا التّطوّر على تشويه المعنى الحقيقي لّلغة ومعانيها الأدبيّة والشّعريّة، فجعلنا منها نموذجاً متصنّعاً حديث الصّنع يتناسب مع تطوّرنا الحضاري، وتدرّج ذلك مع ظهور مفهوم الحداثة وما بعد الحداثة.

مفهوم الحداثة اليوم

فلم يعد لفظ الحداثة اليوم يحمل المعنى الّلغوي له، وأصبح يُفسّر ما هو واقع في حياتنا من ميولِ فكريّة حديثة قضت على عمق تراثنا الأدبي والفكري.

أصبحت الحداثة تحمل في طيّاتها معنى مرجعيّة فكريّة وتاريخيّة اجتمعت في مفهومها كلّ سُبل التّجديد والتّحديث.

إذا أردنا أن نبحث عن مفهوم تلك الكلمة، وعن مدلول التّطوّر الوجودي لها على المستوى الإنساني والاجتماعي، فعلينا أن نعلم متى وكيف ظهرت الحداثة، وما تأثير ذلك المصطلح وأثره علينا اجتماعيّاً وأدبيّاً وفنيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً ودينيّاً.

لقد انتشرت في أوروبا شتّى المذاهب منذ العصور الوثنيّة وحتّى العهدين اليوناني والرّوماني.

وقد تزاحمت مع كثير من المذاهب والتّيّارات الفكريّة، وعقب الثّورات الّتي قامت على الكنيسة والّتي انتشرت من خلالها تلك التّيّارات الشّاردة باسم حريّة الفكر والتّحرّر من السّلطة، ووذلك للفصل بينها وبين الفكر الدّيني والسّياسي والاجتماعي.

فكان لامتداد تلك التّيّارات الفكريّة والأيدولوچيّة وقع المفاجأة في تنظيم الأفكار المشاعة في تلك الحقبة.

قال رولان بارت واصفاً الحداثة بأنّها انفجار معرفي، فكان لها حقّاً هذا التّأثير.

فمتى ما تظهر علامات من التّغيّرات الذّاتيّة نعلم حينها بمدى تأثير الحداثة علينا وعلى مجتمعنا.

تاريخ ومفهوم الحداثة

الحداثة كلمة اشتقّت من التّحديث وتجديد كلّ ما هو قديم، فهي نزعة أدبيّة أقامت ثورة في مجالات الأدب والفن وغيرهما من المجالات؛ لتخلق عالماً جديداً ومفهوماً متطوّراً وحضاريّاً شاملاً.

لقد تردّد كثير من الباحثون بشأن الاتّفاق حول بداية ظهور الحداثة، فشاع ظهورها في عام ١٤٣٦ مع اختراع غوتنبرغ للطّابعة المتحرّكة.

والبعض أشار بظهورها عقب الثّورة الّلوثريّة ضدّ الكنيسة في القرن التّاسع عشر في فرنسا وكان على أثرها انقلاب ظاهر، ولهذا تمّ تسجيل أوّل ظهور لها على أثر الحركة البوهيميّة والّتي انتشرت أيضاً في فرنسا.

وكانت علامة على الخروج عن نمطيّة كلّ ما هو معلوم. فكانت تتفاعل بشكلِ تدريجي لتتعارض مع النّمط التّقليدي ومعارضة كلّ صور الثّقافات المعروفة حينها.

التّديّن والحداثة

كان للحداثة تأثير مأساوي عقب الثّورات الّتي قامت ضدّ الكنيسة للمطالبة بتحرير عبوديّة الشّعب وعبوديّة أفكاره.

فقد أصبحت الحداثة رمزاً لفكر جديد، ونجد تعريفها في بعض الكتب والمصطلحات الأدبية بأنّها مذهب فكري جديد يحمل جذوره وأصوله من الغرب، بعيداً عن حياة المسلمين، وبعيداً عن حقيقة دينهم ونهج حياتهم.

كتب الدّكتور عدنان النّحوي:

الحداثة إذن من منظور إسلامي عند كثير من الدّعاة تتنافى مع ديننا وأخلاقنا الإسلاميّة، فهي معول هدم جاءت لتقضي على كلّ ما هو إسلامي ديناً ولغة وأدباً وتراثاً، وتروّج لأفكار ومذاهب هدّامة، بل هي أخطر تلك المذاهب الفكريّة، وأشدّها فتكاً بقيم المجتمع العربي الإسلامي ومحاولة القضاء عليه والتّخلّص منه.

وعلى أثره كتب علي أحمد سعيد والمعروف باسم “أدونيس”:

إنّ ظهور الحداثة كان مجابهة للدّين فهي ليس لها مصطلح ثابت، وفي منبر الحداثة كلّ شيء مباح، فقد أتت الحداثة بهدم كلّ ما نؤمن به من تراث ماضينا، وللحقيقة ولتنقلب كثير من الصّور الّتي نؤمن بها تحت مفهوم الحداثة والتّحديث.

الأدب والحداثة

وهنا ثورة أخرى وأكثر فجاعة، وأكثرها خطورة عندما شاع مفهوم الحداثة أدبيّاً، وأظهر كلّ ما كان خفيّاً من غموضِ وأسرار، وجعل منه صورة حيّة نراها ونسمعها.

لقد تعارضت الحداثة مع صور النّقد الأدبي والشّعري لتُزيل أغلب مفاهيمنا الأدبيّة، وتُبيح فوضى الفكر فوق الصّورة الأدبيّة.

قال أحد الباحثين: إنّ الأدب يجب أن يُنظر له من رؤية تشكّليّة وفنيّة فقط كونها تعتمد على الخروج عن النّمطيّة وإباحة كلّ صور الجمال غير المتّفق عليها، وما لا يتناسب مع أفكارنا وعقائدنا.

وذكر بعض الباحثين الأوربيّين بأنّ الشّاعر الفرنسي “شارل بودلير” كان أوّل من قدّم الحداثة في مجال الأدب، فكانت رسالته تقوم على إحياء كل ما هو مظلم وبائس.

فكان منظور الحداثة يفوق تخيّل العقل له، والسّماح لها بارتكاب كلّ ما يباح للعقل فعله بلا معوّقات تعرقل مسيرته.

فبعد نشر ديوانه “أزهار الشّرّ” مدفوعاً بالرّغبة بشكل شعري لعرض منتفضات لصور الجمال النّسبيّة وجد بودلير ضالّته فيما كتبه روّاد الحركة الرّومانسيّة.

فكان لتلك الحركة انطلاقة سُمّيت بالحركة الرّومانتيكيّة وقد نشرها كلٌّ من الشّاعر “ويليام وردزورث” وصديقه “صامويل تايلركولريدج” في صناعة المذهب الرّومنسي الّذي نادى بالخروج عن الأعراض والمعاني القديمة في الشّعر.

فخالفوا بهذا الأدباء الفيكتورييّن والمدراس الكلاسيكيّة المعروفة، وهو الشّكل الّذي استوحاه وردزورث وكوليريدج في ثورتهما على جمود الكلاسيكيّة وكسرها.

وقد بدأ هذا العصر في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر باسم النّظريّة البودليريّة، بحيث يباح تجميل كلّ ما هو قبيح والإفلات من حالة الوجود المشوّه.

وظلّ يتصاعد مفهومها حتّى بدأ ظهور الحركة الدّادئيّة والّتي أتاح الشّكل الأدبي لها كلّ ما هو جديد، حتّى ظهرت بعدها الحركة السّرياليّة في أشكال الأدب والفن والسّياسة والدّين.

وتعالت على بعض الأفكار لتصل بنا في الّلاواقع ونعترف بها بوصفها أسلوباً أدبيّاً متجدّداً وحديثاً.

وتلا بودلير في رسالته تلك الشّاعر “رامبو” الّذي اعترف بتجديد ذلك المصطلح على اعتبار أنّ كلّ شاعر عليه أن يهرب ويتمرّد ويثور على تراثه وماضيه، ويغوص في الغموض ليرى ما لا يُرى ويسمع ما لا يُسمع، وليحوم من حوله لغزٌ غير مفهوم.

فالحداثة كمذهب أدبي تجديدي قائمة على أساس الغموض وتقييد معانيه والتّخلّص من الشّكل النّمطي السّائد له.

وكان لبعض الشّعراء نهضة شعرية غير متوقّعة، فكان لتلك الحركة أثر قضى على مفهومنا للمعنى الجمالي للقصيدة العربيّة.

كتبت الشّاعرة سهيلة زين العابدين بأنّ الحداثة من أخطر قضايا الشّعر العربي المعاصر لأنّها أعلنت ثورة وتمرّداً على التّاريخ والّلغة وأخذت شكلاً غير تقليديٍّ للقصيدة الشّعريّة العربيّة.

فكان للحداثة مذهب رمزي لا يستطيع تحديد لغة وقضى على العلاقات الّلغوية ومعناها المعهود في الّلغة والشّعر.

الحداثة والتّحديث والمعاصرة

لقد انخرط مصطلح التّحديث تحت مفهوم علم الاجتماع وسِيَمه وأهدافه كونه متّصل بالشّكل الاجتماعي والاقتصادي الذي يواكب معاصرة العصر والتّعامل مع ملامحه وتجديده.

كتبت خالدة سعيد: إنّ الحداثة أكثر من التّجديد، وإن كان التّجديد صورة من صور الحداثة،

فهي حصيلة لوعي فكري أشار البعض إليه بالتّطرّف لكونه خروج عن المألوف.

لقد غزت الحداثة عالمنا العربي بسرعة أطاحت بمفاهمنا العربيّة ورؤية الشّكل الأدبي المعاصر،

فكثير من كُتّابنا انجرفوا في ظلّ تلك الثّورة لتنساب من بين أيدينا لغتنا ومعناها الرّاقي.

وتسلّلت الحداثة بيننا على أثر ظهور التّكنولوجية الحديثة، والتي أثارت داخلنا البحث عن كلّ ما هو جديد وحديث.

فتتلاطم بعض تلك المفاهيم ببعضها البعض، وتسترسل الحداثة مع مفهوم التحديث الّذي قام على ظهور سبل أفضل وتعزيزيّة لتطوير فكري ثقافي.

كان يليهم مصطلح المعاصرة الّذي تعايشنا معه مع مواكبة تلك المفاهيم واختلاطها، ولقد رأينا مدى تأثير تلك المفاهيم الحديثة، والخطأ الّذي ارتكبناه بجمع تلك المصطلحات والإطاحة بها داخل جعبة واحدة لنهدم بها أصول ثقافتنا العربيّة.

وهنا نجد المفكّر الفرنسي “جان بودريار” يستهلّ حديثه عن الحداثة باعتبارها ليست مفهوماً سيسيولوجيا، ولا مفهوماً سياسيّاً أو حتّى مفهوماً تاريخيّاً.

إنّها نمط حضاري خاص يتعارض دوماً مع نمط التّقليد، حيث إنّها تقوم في وجه التّعدّد الثّقافي والرّمزي في المجتمعات التّقليديّة كشكل متجانس يجتاح العالم انطلاقاً من الغرب الحضاري وحتّى مجتمعنا العربي.

ومع ذلك يظلّ للحداثة مدلول يشير من جهة إلى تطوّر، ومن جهة ثانية إلى تغيّر جذري يمتدّ لأصول ثقافتنا وتاريخنا، فهي مزج بين الواقعيّة والخيال.

وبهذا المفهوم الّلغوي نرى سطوع شمس الحداثة في عالمنا العربي المعاصر، وتوافقها مع ما نحمله من عقد وأفكار نفسيّة مشتّتة، وقلق ذاتي من كلّ ما هو قديم ونمطي.

ومحاولة الثّورة عليه والتّخلّص منه، والبحث عن كلّ ما هو جديد يتوافق وروح التّطوّر العلمي والمادي، ويواكب الأيدولوجيّات الوافدة على عالمنا العربي.

فحزناً على فكر مُسَّ مع نمط عصري حديث بلا فهم.

وحزناً على تاريخ تلاشت آثاره في ظلّ التّحديث.

ولغة هُدمت مع بلوغ المعاصرة أعلى ذروتها.

فنسينا أنّ من سمات التّطوّر الفكري وصوره الجماليّة ما يكمن في لغتنا، فالّلغة تُخاطبنا قبل أن نتخاطب بها.

والسّؤال هنا:

هل مازلنا على تواصل مع لغتنا كما فعل أدباؤنا؟

هل أطاحت صور الحداثة بمفاهيمنا وقضت على وعينا وتطوّرنا الفكري؟

أم انصاغ عقلنا مع صناعة التّكنولوچية والمادّة وأصبح الأدب تجارة عالميّة مدفوعة الثّمن؟

****

هوامش:

غوتنبرغ: مخترع ألماني، اخترع فنّ الطّباعة بالحروف المتحرّكة.

الدّكتور عدنان النّحوي، الحداثة من منظور إسلامي.

علي أحمد سعيد المعروف “أدونيس”، من مقاله في مجلّة مواقف المنبر.

بودلير: شاعر وناقد فنّي فرنسي.

سهيلة زين العابدين، من مقالها في جريدة النّدوة السّعوديّة.

خالدة سعيد: شاعرة وناقدة سورية، ومن روّاد مفهوم الحداثة.

چان بودريار: فيلسوف ومحلّل سياسي وعالم اجتماع، ويعتبر من روّاد ما بعد الحداثة.

****

إعداد: شيريناز مجدي “شيرين رضا”.

تدقيق لغوي: نور رجب.

تصميم غرافيك: علا حموي.

****

واقرأ أيضاً في حبر أدب:

أبرز الرّوائيين العرب وأهم أعمالهم .. أسماء لمعت بحبرها

مشكلة الأفكار في عالمنا.. ودعوة لحلها..

رضوى عاشور .. زوجة الأديب.. وأمّ الشاعر.. رحمكِ الله..

ماذا قال حبر الرّوايات في 2018؟.. أهم الرّوايات العربيّة الصّادرة عام 2018

الحبّ بين الواقع والخيال .. قراءة نقديّة

مفهوم الثّقافة الدّينيّة وحضوره في الأدب

****

تابع حبرنا عبر

twitter    instagram   facebook

التعليقات غير مفعلة